ربما لم يكن يعلم طالب الدكتوراه الإيطالي” جوليو ريجيني” أنه
سيذهب ضحية الانفلات الأمني أو القمع غير المنضبط الذي تعيشه العديد من
الأوساط المصرية منذ سنوات عديدة، حتى لا تزال طريقة وفاة الطالب الإيطالي
حبيسة روايات متضاربة في ظل عدم وجود رواية رسمية إلى الآن.
ويأتي مقتل “ريجيني” بعد شهور قليلة من مقتل الرهينة الكرواتي
“توميسلاف سالوبيك” ذبحًا بقطع رأسه على يد تنظيم” ولاية سيناء” عقب خطفه
وانتهاء مهلة مدتها “48” ساعة حددها التنظيم لإعدامه إذا لم تطلق السلطات
المصرية سراح “النساء” المعتقلات لديها في السجون.
ومن بين أبرز الأحداث الأمنية التي ضربت مصر هي سقوط
الطائرة الروسية في سيناء أواخر أكتوبر الماضي، وسقوط جميع الركاب على
متنها وعددهم 224
شخصًا، وسط جدل سياسي محلي ودولي إلى ما وصلت إليه المنظومة الأمنية في مصر.
شخصًا، وسط جدل سياسي محلي ودولي إلى ما وصلت إليه المنظومة الأمنية في مصر.
بالعودة إلى مقتل الطالب العشريني” ريجينو” والتنكيل بجثته، واختفائه مدة 10
أيام متواصلة، نستعرض في هذا التقرير بداية قصة الطالب الإيطالي وأهم الاحتمالات المتداولة لقصة قتله المثيرة للجدل.
أيام متواصلة، نستعرض في هذا التقرير بداية قصة الطالب الإيطالي وأهم الاحتمالات المتداولة لقصة قتله المثيرة للجدل.
بداية الاختفاء
لم يأت” ريجيني” إلى مصر لقضاء الوقت أو السياحة، لكنه جاء بهدف
دراسة الدكتوراه الخاصة به حول “دور النقابات العمالية المستقلة بعد ثورة
25 يناير”، فبدأ يجري مقابلات مع نشطاء عماليين مصريين، ومستقلين، وشخصيات
قريبة من المعارضة.
أثارت هذه المقابلات حفيظة صديقه المقرب منه، والذي حذره من مخاطر
ما يفعله كونه على دراية بما يزعج السلطة الحاكمة، إلى أن توقف عن عمله
الميداني يوم الخامس والعشرين من الشهر الماضي أي” ذكرى الثورة المصرية
الخامسة”، وهو يوم اختفائه.
ووفقا للرواية المتداولة من أحد أصدقاء ريجيني، فإنه مساء ذكرى
الثورة الخامسة، وبالتزامن مع الانتشار الواسع لآليات الشرطة المصرية في
معظم المحافظات؛ غادر “ريجينو” منزله الواقع في القاهرة، حيث أخبر زميله
أنه يعتزم ركوب قطار الأنفاق من محطة “البحوث” في حي الدقي بالجيزة، إلى
ميدان “باب اللوق” بالقاهرة لمقابلة صديق، لحضور حفل ميلاد أحد الأصدقاء،
لكنه لم يصل.
وكان “ريجيني” قد أعرب إلى زميله الكاتب والصحفي، لإذاعة
“بوبولاري” الإيطالية “چيوسيپى أكونشيا”، عن خوفه على أمنه الشخصي، بسبب
بعض رسائل البريد الإلكتروني بينهما، لمشاركته في مساعدة النقابات والحركات
العمالية المستقلة. وقد نصحه بتوخي الحذر أكثر من ذي قبل، لا سيما وأنه
اعتاد نشر مقالاتٍ له بالصحيفة اليومية الإيطالية “المانيفستو”، ذات
التوجهات اليسارية بشأن مصر، تحت اسم مستعار خوفًا على سلامته الشخصية.
ويؤكد العاملون في الوقت نفسه بصحيفة “المانيفستو”، أنه في مطلع
شهر يناير الماضي، وبعد أن أرسل “ريجينو” مقاله الأخير بشأن “استئناف
مبادرة النقابات العمالية المصرية”، شدد عدة مراتٍ على ضرورة نشره تحت اسم
مستعار.
لم يعد الطالب إلى منزله، حيث بدت علامات الريبة تحوم حول
أصدقائه، إلى أن أعلنت وزارة الخارجية الإيطالية اختفاءه يوم 31 يناير
الماضي، وأخذ وزير الخارجية يجري اتصالا مع نظيره المصري لبحث الأمر.
وكثفت السلطات المصرية بدورها عمليات البحث والتحري عن
الطالب، إلا أنه بعد أربعة أيام من الإعلان الإيطالي عن اختفاء” ريجيني”
أعلنت النيابة العامة في الرابع من الشهر الجاري أن السلطات عثرت على جثّته
ملقاة على طريق وبها
حروقٌ ناتجة عن سجائر وآثار تعذيب أخرى، ونصفها السفلي عار.
حروقٌ ناتجة عن سجائر وآثار تعذيب أخرى، ونصفها السفلي عار.
ووفقا لمصلحة الطب الشرعي، والتي
خلصت في تقريرها إلى وجود كدمات متفرقة في جسده، وقطع في الأذن، فضلًا عن
آثار تعذيب ونزيف حاد وكسر في الجمجمة، الأمر الذي أدى إلى وفاته.
وقد سارعت روما إلى دعوة مصر لإجراء تحقيق شفاف وموسع، ومعرفة
الجهات المسؤولة حول عملية القتل، فضلا عن استدعاء سفير مصر لديها للتباحث
بشأن الحادث، ووقف كل الأنشطة الاقتصادية بين البلدين إلى حين الإفصاح عن
النتائج.
نبذة عن الطالب الإيطالي
“جوليو ريجيني” هو طالب إيطالي، يبلغ من العمر 28 عامًا، درس
الاقتصاد بجامعة كامبريدج البريطانية، وانتقل إلى القاهرة منذ سبتمبر
الماضي ليتابع دراساته العليا المتعلقة بالتنمية، ما دفعه إلى التركيز في
دراسة الدكتوراه على النقابات العمالية وواقعها في مصر بعد ثورة 25 يناير.
ويشغل” ريجينو”، والذي قدم إلى القاهرة للدراسة وتحضير رسالة
الدكتوراه؛ منصب باحث زائر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، ويتمتع بمهارات
عالية وقدرات في بحثه، خاصة وأنه يتقن أربع لغات، مما أهله للحصول على عدة
منح دراسية.
وقد ركز خلال فترة وجوده في مصر على إجراء العديد من المقابلات
والحوارات مع أصحاب النقابات العمالية، وظروفها بعد ثورة 25 يناير، فضلا عن
مساهمته الواسعة في إثراء أفكاره، عند الحضور لأي ورشة تتعلق بواقع
النقابات.
لاسيما وأنه لفت في مقاله الأخير إلى حضوره لاجتماع خاص بـ”دار
الخدمات النقابية والعمالية”، وهو كيان نقابي عمالي مستقل يضم أعضاءً من
جميع أنحاء مصر، وتناول الاجتماع مناقشات حول توجه الدولة لمحاربة النقابات
المستقلة وتهميش العمال.
سيناريوهات مقتل «ريجيني»
حتى اللحظة لم يتم الإعلان رسميا عن الجهة التي تقف خلف عملية
القتل والتنكيل بجثة الطالب، بيد أن العديد من القراءات والروايات توصلت
إلى بعض من السيناريوهات المتعلقة بقتله، وأخرى استبعدتها.
تنظيم ولاية سيناء أمر مستبعد
استبعد المراقبون أن يكون لتنظيم ولاية سيناء يد في مقتل الطالب
الإيطالي، مستشهدين بذلك مع ما جرى مع الرهينة الكرواتي أغسطس الماضي، بعد
أن وجد مقطوع الرأس في منطقة السادس من أكتوبر، وهي نفس المنطقة التي عثر
فيها على “ريجينو”.
وبالتالي، لو كان التنظيم هو من اختطف” ريجينو” لباشر بالإعلان
ضمن مقطع فيديو قصير، يتضمن رسالة محددة كما جرى مع “سلوبك”، الذي طالب في
الفيديو بإطلاق سراح من أطلق عليهن “النساء المعتقلات في السجون” في غضون
48 ساعة.
ويرى المتابعون أيضا أن التنظيم منذ أن بدأ نشاطه في مصر لا ينتهج
سياسة تعذيب ضحاياه قبل قتلهم أو إخفاء مسؤوليته عن ذلك، وإنما يسارع إلى
التفاخر بذلك ومساومة الدولة على إطلاق سراح رهائن.
الأمن المصري احتمال وارد
يستند أصحاب هذا السيناريو بناء على تحركات الطالب الإيطالي
وتنقله بين النقابات العمالية، وتصريحات رفيقه “چيوسيپى أكونشيا” على
الإذاعة الإيطالية بأنه تم إلقاء القبض على شخص أجنبي “داخل محطة مترو
الجيزة”، إذ رجح وقتها أن “ريجينو” هو المقصود من وراء عملية القبض من قبل
أجهزة الأمن، بالتزامن مع عمليات الأمن الموسعة للشرطة آنذاك.
تأكيد” أكونشيا” جاء قبل أيام قليلة من خشية
“ريجينو” على أمنه الشخصي، بسبب تنقله بين العمال والشخصيات القريبة من المعارضة، ومن كانوا داخل المعتقلات سابقا، لا سيما وأنه لفت في مقاله الأخير أنه اجتمع مع قطاعات العمال، وتم وضع خطط للتحرك على المدى القصير والمتوسط.
“ريجينو” على أمنه الشخصي، بسبب تنقله بين العمال والشخصيات القريبة من المعارضة، ومن كانوا داخل المعتقلات سابقا، لا سيما وأنه لفت في مقاله الأخير أنه اجتمع مع قطاعات العمال، وتم وضع خطط للتحرك على المدى القصير والمتوسط.
ويشير المقال حسب “ريجينو” أن الحضور كان كبيرًا لدرجة أن البيان
الختامي قد اختتم بتوقيع 50 جهة، تمثل تلك الجهات قطاعات من مختلف أنحاء
البلاد، وهو ما تسبب في زيادة الشعور بالخوف لدى الطالب من توقيع مقالاته
باسمه الحقيقي.
توتير العلاقات
ترى بعض الأصوات الموالية للنظام في مصر أن الجهة التي تقف خلف
الحادث قد يكون لها هدف سياسي من خلال قطع العلاقات بين البلدين، والتأثير
على الأنشطة الاقتصادية بينهما، والتي كان من المرجح أن تزدهر خلال الفترة
المقبلة، لا سيما وأن الكشف عن الحادث جرى عشية انعقاد مجلس الأعمال
الاقتصادي المصري الإيطالي ولقاء وزيرة التنمية الاقتصادية الإيطالية
بالرئيس “عبد الفتاح السيسي”.
وأمام كل هذه السيناريوهات يبقى أصدقاء وزملاء الطالب هم كلمة
السر ربما في الكشف عن قتلته، بعد التحقيقات الحثيثة التي تجريها السلطات
المصرية معهم، خصوصا في الأيام الأخيرة قبل اختفائه.
مصر وإيطاليا وتعليق الأنشطة
بمجرد الإعلان الرسمي عن العثور على جثة الطالب الإيطالي مقتولا
بعد أن تعرض لساعات من التعذيب والإهانة والتنكيل، حتى سارعت إيطاليا إلى
استدعاء السفير المصري في إيطاليا لتبلغه “استياءها” لمقتل طالب في مصر كان
مفقودا منذ نحو 10 أيام.
فضلا عن قيام وزير التنمية الاقتصادية الإيطالية بقطع زيارتها إلى
القاهرة والعودة مرة أخرى لبلادها، برفقة الوفد الاقتصادي المرافق لها،
والذي كان من المقرر أن يحضر ويناقش العديد من الأعمال الاقتصادية
والتجارية الحرة بين البلدين.
في حين لفتت مصر إلى أن التحقيقات جارية حول معرفة الجهات التي
تقف وراء عملية القتل، إلا أن الأمر الأكثر استفزازًا بالنسبة لإيطاليا هو
العثور على الجثة وقد بدت علامات التعذيب والتنكيل عليها، مما دفع السفير
الإيطالي في القاهرة إلى التوجه إلى المشرحة الرئيسية لنقل جثمان الطالب
ليتم تشريحه في روما.
قد يبدو من ظاهر الأمر أن العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين
الدولتين ستتوقف، بيد أن العديد من المتابعين وخبراء الاقتصاد يرون أن
التأثر قد يكون في مرحلة مؤقتة، وسرعان ما تعود إلى سابقها، لافتين في
الوقت نفسه إلى ما جرى مع روسيا إثر سقوط طائرة تابعة لها في سيناء ومقتل
جميع من كان على متنها، حيث ما زالت العلاقات والمصالح جارية بين البلدين.
ويوضح أيضا خبراء أن العلاقات الاقتصادية بين مصر وإيطاليا التي
كان من المنظر تنشيطها وزيادتها خلال الفترة المقبلة ستتوقف لحين الكشف عن
ملابسات مقتل المواطن الإيطالي، وإعلان رواية رسمية تحسم الجدل في الرأي
العام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق